في اليوم الرابع من العدوان
ما الذي يحدثُ الآن في غزة، بعد أيامٍ من العدوان ؟
رائحة الموت ما زالت تفضحُ الحرب التي تهرولُ في كُلِ مكانٍ، ولا أحد يُفَكِرُ في نفسهِ تماماً، نأكلُ ونفكرُ في الذين يطبخون الحصى هذه الليلة، نبتسمُ قليلاً ثُم نلطمُ فمنا ونُفَكِرُ بالذين يعدون الجروح في وجوههم، وكأي موتٍ فإن شريط الحياة يَمُرُ أمام أعيوننا مُكثفاً، إلا أنه يمُرُ الآن ببطءٍِ كما هو بطيء موتنا وكما هو بطيء الانتظار مثل سائلٍ لزجٍ ودَبِقٍ يسيلُ على زجاج الذاكرة.
الأمهات يودعن أبنائهن كُلما نزلوا إلى الشارع ليشتروا من الدكان الذي يبعدُ عن المنزلِ عشرة أمتارٍ، ويحضنوهن عند العودة ولولا الحياءِ والموتِ الذي يضعُ عينهُ في عينهن، لزغردن بعودتهم سالمين بعد شراء نصف علبة من السجائر مثلاً، والسيرُ في الشارعِ الآن لا يشبهُ أي وقتٍ سابق، نسيرُ بحذرِ الأرنبِ تحت مرمى الصقر، نُفَكِرُ هل ترانا الطائرة، هل نظهرُ واضحين على الشاشةِ، وهل ستوقفهُ ملامحي التي أحاول بكل إتقانٍ وأفشلُ في أن أظهر أنها عادية وغير مكترثة، نسيرُ مبتعدين عن أي حركةٍ غير اعتيادية، مثلاً، لا داعي لأن تحمل أغراضك في كيسٍ أسود، ولا داعي لأن ترفع الهاتف المحمول على أذنك بشكل مستمر؛ أجِل مكالمة حبيبتك، ولا تقترب من السيارات، والدراجات النارية، ليس التزاماً بقواعد السلامة على الطريق، بل التزاماً بالابتعاد عن الموت الذي يملأ الطريق.
العائلة متفرقة في كل مكان وتسمعُ ذات الصوت، الأم في المطبخ وتسمع صوت الطائرة والأخبار، الأب في الصالة يسمع صوت الطائرة ويشاهد الأخبار، الأخوة والأخوات يسمعون صوت الطائرة ويسمعون الأخبار، الراديو التلفاز، الهاتف، الإنترنت، وفي النهاية يجتمعون جميعهم ويؤكدون أن الحرب ما زالت مستمرة، لا يقولون أنهم يريدون الموت معاً، إلا أنهم لا يختلفون على هذا الاتفاق الداخلي، لذلك تراهم ينامون جميعهم في غرفةٍ واحدة بعد أن يتأكدوا من اكتمالِ العدد !
